فصل: تفسير الآيات رقم (9- 16)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تيسير التفسير ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏12- 20‏]‏

‏{‏كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ ‏(‏12‏)‏ وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ أُولَئِكَ الْأَحْزَابُ ‏(‏13‏)‏ إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ ‏(‏14‏)‏ وَمَا يَنْظُرُ هَؤُلَاءِ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ ‏(‏15‏)‏ وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ ‏(‏16‏)‏ اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ ‏(‏17‏)‏ إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ ‏(‏18‏)‏ وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ ‏(‏19‏)‏ وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآَتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ ‏(‏20‏)‏‏}‏

أصحاب الأيكة‏:‏ قوم شُعيب‏.‏ الأيكة‏:‏ الشجرة الملتّف‏.‏ الفَواق‏:‏ الوقت اليسير، الراحة والتمهل‏.‏ قِطّنا‏:‏ نصيبنا وحظنا‏.‏ عجّل لنا‏:‏ عجل لنا نصيبنا من العذاب‏.‏ ذا الأيد‏:‏ ذا القوة‏.‏ اواب‏:‏ تواب‏.‏ الاشراق‏:‏ الصباح‏.‏ محشورة‏:‏ مجموعة ومحبوسة‏.‏ شددنا ملكه‏:‏ قويناه‏.‏ الحكمة‏:‏ اصابة الصواب في القول والعمل‏.‏ فصْل الخطاب‏:‏ الكلام الفاصل بين الحق والباطل‏.‏

يبين الله تعالى في هذه الآيات أنباء أقوام الأنبياء الماضين كيف كذّبوا رُسُلَهم فحاق بهم ما كانوا به يكذّبون‏.‏

كذّبت قبلهم قومُ نوح، وعاد، وقوم فرعون صاحبِ الملك الكبير والأبنية العظيمة الراسخة كالجبال‏.‏ وقوم عاد وقوم لوط واصحاب الأيكة ‏(‏وهم قوم شعيب‏)‏ ‏{‏أولئك الأحزاب‏}‏ كلهم حقّ عليهم العذاب وأهلكهم الله بفجورهم‏.‏

ثم بيّن بعد ذلك عقاب قريش فقال‏:‏

‏{‏وَمَا يَنظُرُ هؤلاءآء إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً‏}‏

ما ينتظر كفار مكة الا صيحةً واحدة لا تحتاج الى تكرار في وقت قصير جدا‏.‏

وقالوا استهزاء وسخرية‏:‏ ربّنا عجّل لنا نصيبنا من العذاب الذي توعدتنا به، ولا تؤخره الى يوم القيامة‏.‏

اصبر يا محمد على ما يقولون‏:‏ واذكر كيف صبر عبدُنا داود ذو القوة، إنه توّاب‏.‏ لقد سخّرنا الجبالَ معه يسبّحن بالعشي والإصباح، وسخّرنا الطير مجموعة له ‏{‏كُلٌّ لَّهُ أَوَّابٌ‏}‏‏.‏ وقوّينا ملكه وآتيناه الحكمة وفصل الخطاب بالفصل في الخصومات على اساس العدل‏.‏

بهذه الاوصاف الكاملة نعت القرآن الكريم داود، اما التوراة فقد وصفته بأقبح النعوت كالظلم والفسق والغدر واغتصاب النساء من أزواجهن‏!‏‏!‏ وجاء في قاموس الكتاب المقدس صفحة 365 طبعة 15 ما نصه‏:‏ ارتكب داود في بعض الأحيان خطايا يندى لها الجبين خجلا‏.‏ قراءات‏:‏

قرأ حمزة والكسائي‏:‏ فُواق بضم الفاء، والباقون‏:‏ فَواق بالفتح، وهما لغتان‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏21- 25‏]‏

‏{‏وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ ‏(‏21‏)‏ إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ ‏(‏22‏)‏ إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ ‏(‏23‏)‏ قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ ‏(‏24‏)‏ فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآَبٍ ‏(‏25‏)‏‏}‏

الخصم‏:‏ المخاصم، يطلق على المفرد المثنى والجمع، ويُجمع على خصوم‏.‏ تسوّروا‏:‏ تسلقوا السور‏.‏ المحراب‏:‏ مكان العبادة، والغرفة، واكرم مكان في المنزل، ومقام الإمام في المسجد‏.‏ ففزع‏:‏ خاف‏.‏ بغى بعضنا على بعض‏:‏ جار ولظم‏.‏ ولا تشطط‏:‏ ولا تبعد عن الحق، ولا تتجبّر في الحكم‏.‏ سواء الصراط‏:‏ طريق الحق‏.‏ النعجة‏:‏ انثى الضأن‏.‏ اكفلنيها‏:‏ أعطني اياها، واجعلن كافلها‏.‏ وعزّني في الخطاب‏:‏ وغلبني في الكلام‏.‏ الخلطاء‏:‏ الشركاء‏:‏ فتنّاه‏:‏ ابتليناه‏.‏ خر‏:‏ سقط على وجهه‏.‏ راكعا‏:‏ ساجداً لربه‏.‏ وأناب‏:‏ رجع الى ربه‏.‏ زلفى‏:‏ قربى‏:‏ مآب‏:‏ مرجع‏.‏

لا يزال الحديث في قصة داود‏.‏ هل أتاك يا محمد خبر الخصمين اللذين تسلّقا السور ودخلا عليه في مكان عبادته، لا من الباب‏.‏

وعندما دخلوا عليه بهذه الطريقة الغريبة خاف منهم واضطرب، قالوا‏:‏ لا تخف، نحن خصمان ظلم بعضُنا بعضا، وجئناك لتحكم بيننا بالعدل، لا تجُرْ في حُكمك وأرشِدنا الى الحق‏.‏ ان هذا أخي له تسع وتسعون نعجة، ولي نعجة واحدة، فقال أعطِني إياها لتكون في كفالتي وغلبني بكلامه وحججه‏.‏

قال داود قبل ان يسمع كلام الخصم الآخر‏:‏ لقد ظلمك يا هذا حين طلب ضمَّ نعجتك إلى نعاجه، ان كثيراً من الشركاء والمتخالطين ليجوز بعضهم على بعض، ‏{‏إِلاَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات‏}‏ ولكنهم قلة نادرة‏.‏

‏{‏وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ‏}‏

وعرف داود ان الأمر ما هو الا امتحان من الله، فطلب المغفرة، وخرّ ساجدا لله، وأنا اليه بالتوبة‏.‏ فغفرنا له تعجُّلة في الحكم، وان له عندن امكانةً عالية وحُسنَ مآب‏.‏ وهنا عند قوله فخرّ راكعاً وأناب موضع سجدة‏.‏

نقل كثير من المفسرين ما جاء في التوراة، من ان داود كان يحب امرأة أُوريا الحثّين وانه أرسله الى الحرب حتى قُتل ثم تزوجها، ولم يثبت عندنا في الأثرِ شيء من هذا، ولذلك يجب ان نكون على حذر من هذه الأمور، فان التوراة قد حُرِّفت من الدفة الى الدقة كما يقول «لوثر» وغيره، وكما نص القرآن الكريم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏26- 29‏]‏

‏{‏يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ ‏(‏26‏)‏ وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ ‏(‏27‏)‏ أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ ‏(‏28‏)‏ كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آَيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ ‏(‏29‏)‏‏}‏

باطلا‏:‏ عبثا‏.‏ ويل‏:‏ هلاك‏.‏ مبارك‏:‏ كثير الخيرات‏.‏ ليدّبّروا‏:‏ ليتفكروا‏.‏ وليتذكر‏:‏ وليتعظ‏.‏ اولو الالباب‏:‏ أصحاب العقول المدركة‏.‏

يا داود إنا استخلفناك في الأرض، فاحكم بين الناس بام شرعتُ لك، ‏{‏وَلاَ تَتَّبِعِ الهوى‏}‏ في الحكم وغيره من امور الدين والدنيا، فيحيد بك عن سبيل الله‏.‏ ان الذين يَضلّون ويحيدون عن سبيل الله باتباع أهوائهم لهم عذاب شديد ‏{‏فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنَ النار‏}‏‏.‏ أيليق بحكمتنا وعدلنا ان نسوّي بين المؤمنين الصالحين، وبين المفسدين في الأرض‏؟‏ ام يليق ان نسوي بين المتقين وبين الفجارالمتمردين على أحكامنا‏!‏‏؟‏

ان هذا الذي أنزلناه اليك كتابٌ مبارك كثير الخيرات، ليتدبروا آياته ويفهموها، وليتعظ به أصحاب العقول السليمة، والبصائر المدركة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏30- 40‏]‏

‏{‏وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ ‏(‏30‏)‏ إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ ‏(‏31‏)‏ فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ ‏(‏32‏)‏ رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ ‏(‏33‏)‏ وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ ‏(‏34‏)‏ قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ ‏(‏35‏)‏ فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ ‏(‏36‏)‏ وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ ‏(‏37‏)‏ وَآَخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ ‏(‏38‏)‏ هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ‏(‏39‏)‏ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآَبٍ ‏(‏40‏)‏‏}‏

الصافنات‏:‏ جمع صافن من الخيل الأصائل، وغالباً ما يقف على ثلاث قوائم، ويرفع احدى يديه‏.‏ الجياد‏:‏ جمع جواد، وهو السريع العدو، كما ان الجواد من الناس هو السريع البذل والعطاء‏.‏ حب الخير‏:‏ حب الخيل‏.‏ توارت‏:‏ غابت عن الانظار‏.‏ طفق‏:‏ شرع‏.‏ مسحاً بالسُّوق والاعناق‏:‏ جعل يمسح أعناقها وسوقها ترفقاً بها وحباً لها‏.‏ فتناه‏:‏ ابتليناه‏.‏ لا ينبغي لأحد بعدي‏:‏ لا يليق بأحد بعدي‏.‏ رخاء‏:‏ لينة‏.‏ حيث اصاب‏:‏ حيث قصد وأراد‏.‏ مقرّنين بالأصفاد‏:‏ مربوطين بالسلاسل، والاغلال‏.‏ فامنن، أعطِ، وامسك‏:‏ امنع‏.‏

ورزقنا داودَ ابنه سليمان، وكان عبداً مطيعاً لربه يستحق كل ثناء ومدح‏.‏ ومن أخباره انه عُرضت ليه الخيل الأصيلة بالعشيّ لينظر اليها، ويُسرّ برؤيتها، فأطال الوقوف عندها حتى اضاع وقت الصلاة، فلام نفسه‏:‏

‏{‏فَقَالَ إني أَحْبَبْتُ حُبَّ الخير عَن ذِكْرِ رَبِّي‏}‏

والخير هنا هو الخيل، وهي من اجود المال عند العرب، و‏{‏عَن ذِكْرِ رَبِّي‏}‏ عن الصلاة، حتى توارت الشمس بالحجاب‏.‏ ثم امر بردّها اليه فأخذ يمسح أعناقها وسوقها ترفقاً بها وحباً لها‏.‏

وقال بعض المفسرين انه أخذ يضرب سوقها واعناقها بالسيف‏.‏ ومن الصعب ترجيح رواية على الأخرى، ولكن ابن حزم لم يقبل رواية قتل الخيل‏.‏ وكذلك الرازي والطبري، بل رأوا انه أخذ يمسح اعناقها وسوقها ترفقاً بها وحبا لها‏.‏

لقد امتحنّا سليمان فابتليناه بمرضٍ شديد فألقيناه جسدا على كرسيه لا يستطيع تدبير الأمور، فتنبّه الى هذا الامتحان، فرجع الى الله تعالى، وتاب ثم اناب، ودعا ربه بقوله ‏{‏رَبِّ اغفر لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لاَّ يَنبَغِي لأَحَدٍ مِّن بعدي‏}‏ انك انت الكثير العطاء‏.‏

وهنا عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا على كُرْسِيِّهِ جَسَداً‏}‏ تكلم المفسرون كلاما كثيرا وكله من الاسرائيليات لا صحة له، فأعرضنا عنه‏.‏

ثم اخبر اللهُ بانه أجاب دعاءه ووفقه لما اراد وعدّد نعمه عليه فقال‏:‏

‏{‏فَسَخَّرْنَا لَهُ الريح تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَآءً حَيْثُ أَصَابَ‏}‏

فذللّنا له الريح تجري حسب مشيئته، رطبة هينة، الى اي جهة قصد‏.‏ وتقدم في سورة سبأ‏:‏ ‏{‏وَلِسُلَيْمَانَ الريح غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ‏}‏‏.‏ وفي سورة الانبياء‏:‏ ‏{‏وَلِسُلَيْمَانَ الريح عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ ‏[‏الانبياء‏:‏ 81‏]‏‏.‏

وذلّّلنا له كل بناء في الارض، وغوّاص في أعماق البحار من الشياطين الأقوياء، حتى انه قَرَنَ قسماً من الشياطين المتمردين في السلاسل والقيود، ليكفّ شرهم عن الناس‏.‏ واوحى الله تعالى اليه بأن يتصرف في ملكه الواسع كما يشاء دون رقيب ولا حسيب فقال‏:‏

‏{‏هذا عَطَآؤُنَا فامنن أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ‏}‏

هذا عطاؤنا الخاص بك، فأعطِ من شئت وامنع من شئت، غير محاسَب على شيء من ذلك‏.‏

ثم بين ان له في الآخرة عند ربه مقاماً كريما في جنات النعيم بقوله‏:‏

‏{‏وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لزلفى وَحُسْنَ مَآبٍ‏}‏ ومرجعٍ الينا‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏41- 48‏]‏

‏{‏وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ ‏(‏41‏)‏ ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ ‏(‏42‏)‏ وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ ‏(‏43‏)‏ وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ ‏(‏44‏)‏ وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ ‏(‏45‏)‏ إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ ‏(‏46‏)‏ وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ ‏(‏47‏)‏ وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيَارِ ‏(‏48‏)‏‏}‏

تقدم ذكر أيوب باختصار في سورة النساء والانعام، وفي سورة الانبياء بآيتين، وهنا في سورة ص في أربع آيات‏.‏ وقد مر ذكره بالتفصيل في سورة الانبياء عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضر وَأَنتَ أَرْحَمُ الراحمين‏}‏ 83‏.‏ وهنا جاءت آيتان زيادة على ما مر، وهما قوله تعالى‏:‏

‏{‏اركض بِرِجْلِكَ هذا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ‏}‏

اضرب برجليك الارض، فَثَمَّتَ ماء بارد تغتسل منه وتشرب، فيزول ما بك من بلاء وعذاب‏.‏ والآية الثانية‏:‏

‏{‏وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فاضرب بِّهِ وَلاَ تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً نِّعْمَ العبد إِنَّهُ أَوَّابٌ‏}‏

كان أيوب قد حلفَ ان يضرب أحداً من اهله، يقال انها امرأته، عدداً من العصّي، حلل الله يمينه بان يأخذ حزمة فيها العدد الذي حلف ان يضرب به، فيضرب بالحزمة مَنْ حَلَفَ على ضربه، فيبر بيمينه بأقل ألم‏.‏ وقد منّ الله عليه بذلك، لأنَّ الله وجده صابراً على بلائه، فاستحق بذلك الثناء، ‏{‏نِعْمَ العبد إِنَّهُ أَوَّابٌ‏}‏ منيبٌ الى الله‏.‏

وكذلك اذكر يا محمد عبادنا ابراهيم واسحاق ويعقوب، اصحابَ القوة في طاعة الله، والبصائر المنيرة، إنا خصصناهم فجعلناهم خالصين لطاعتنا، يعملون للآخرة ويؤثرونها على كل شيء، انهم عندنا لمن المختارين الاخيار‏.‏ وكذلك اسماعيل واليسع وذو الكفل وكلهم من الاخيار‏.‏ وقد ذكر اليسع في سورة الأنعام، ومر ذِكر ذي الكفل في سورة الانبياء ايضا‏.‏

قراءات‏:‏

قرأ يعقوب‏:‏ بنَصَب بفتح النون والصاد‏.‏ والباقون‏:‏ بنصب بضم النون واسكان الصاد‏.‏ وقرأ ابن كثير‏:‏ واذكر عبدنا ابراهيم‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ بالافراد‏.‏ والباقون‏:‏ واذكر عبادنا بالجمع‏.‏ وقرأ نافع‏:‏ بخالصةٍ ذكرى الدار بالاضافة‏.‏ والباقون‏:‏ بخالصةٍ ذكرى الدار، بالتنوين‏.‏ وقرا حمزة والكسائي‏:‏ والليسع بلامين‏.‏ والباقون واليسع بلام واحدة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏49- 64‏]‏

‏{‏هَذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآَبٍ ‏(‏49‏)‏ جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوَابُ ‏(‏50‏)‏ مُتَّكِئِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ ‏(‏51‏)‏ وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ ‏(‏52‏)‏ هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسَابِ ‏(‏53‏)‏ إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ ‏(‏54‏)‏ هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآَبٍ ‏(‏55‏)‏ جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمِهَادُ ‏(‏56‏)‏ هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ ‏(‏57‏)‏ وَآَخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ ‏(‏58‏)‏ هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لَا مَرْحَبًا بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُوا النَّارِ ‏(‏59‏)‏ قَالُوا بَلْ أَنْتُمْ لَا مَرْحَبًا بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا فَبِئْسَ الْقَرَارُ ‏(‏60‏)‏ قَالُوا رَبَّنَا مَنْ قَدَّمَ لَنَا هَذَا فَزِدْهُ عَذَابًا ضِعْفًا فِي النَّارِ ‏(‏61‏)‏ وَقَالُوا مَا لَنَا لَا نَرَى رِجَالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرَارِ ‏(‏62‏)‏ أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصَارُ ‏(‏63‏)‏ إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ ‏(‏64‏)‏‏}‏

مآب‏:‏ مرجع‏.‏ جنات عدْن‏:‏ جنات الاقامة والاستقرار‏.‏ قاصرات الطرف‏:‏ عفيفات‏.‏ أتراب‏:‏ متساويات في الأعمار‏.‏ فبئس المهاد‏:‏ فَسَاء الفراش‏.‏ الحميم‏:‏ شدة الحرارة، غسّاق‏:‏ ما يسيل من صديد اهل النار‏.‏ من شكله‏:‏ من مثله‏.‏ ازواج‏:‏ الون‏.‏ فوج‏:‏ جمع كثير‏.‏ لا مرحبا بهم‏:‏ غير مرغوب فيهم، ولذلك لا يرحب بهم‏.‏ زاغت عنهم‏:‏ مالت عنهم‏.‏

هذا الذي قصصّنا عليك أيها النبي، نبأَ بعض المرسَلين- تذكير لك ولقومك، وان الله اعطى المتقين حسن المرجع إليه، حيث أعدّ لهم جناتِ عدْنٍ أبوابُها مفتحة اكراما لهم، يجلسون فيها متكئين على الأرائك مسرورين، يتمتعون فيها بأطيب انواع الفواكه، وخير الشراب، وعندهم ازواجهم من الحور العِين القاصراتِ الطرف الفيفات، متساويات في العمرُ، على خير ما يرام من الوفاق والسعادة والسرور‏.‏

‏{‏هذا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الحساب‏}‏ أيها المؤمنون المخلصون، وهو بعض عطائنا الذي لا ينفد ولا ينتهي‏.‏

ثم بعد ان وصف ثواب المتقين وما أعدّ لهم، أردفه بوصف عقاب الطاغين، فقال‏:‏ ان هذا النعيم لهو جزاء المتقين، وان للطاغين المتمردين لشر عاقبة، وسوء منقلب‏.‏

‏{‏هذا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ وَآخَرُ مِن شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ‏}‏

هذا حميم بالغ الحرارة وصديدٌ من نار جهنم، فليذوقوه‏.‏ ولهم عذاب آخر في أشكال متعددة وانواع متشابهة في شدتها وقسوتها‏.‏

ويقال للطاغين وهم رؤساء المشركين‏:‏ هذا جمعٌ كثير داخلون النار معكم يقتحمونها فوجا اثر فوج، وهم اتباعكم، فيقول هؤلاء الرؤساء‏:‏ ‏{‏لاَ مَرْحَباً بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُو النار‏}‏ وداخلون فيها غير مرحَّب بهم‏.‏

ثم يرد عليهم الداخلون من الاتباع ويقولون لهم‏:‏ ‏{‏بَلْ أَنتُمْ لاَ مَرْحَباً بِكُمْ‏}‏ لأنكم الذين قدّمتم لنا هذا العذاب بإغرائكم لنا ودعوتنا الى الكفر، ‏{‏فَبِئْسَ القرار‏}‏ لكم في جهنم‏.‏

ثم يزيد الأتباع بدعائهم على رؤساء الضلال قائلين‏:‏ يا ربنا، من تسبّب لنا في هذا العذاب فزدْه عذابا مضاعفا في النار‏.‏ وفي سورة الاعراف 38 ‏{‏رَبَّنَا هؤلاء أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَاباً ضِعْفاً مِّنَ النار قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ ولكن لاَّ تَعْلَمُونَ‏}‏ وكذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَقَالُواْ رَبَّنَآ إِنَّآ أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَآءَنَا فَأَضَلُّونَا السبيلا رَبَّنَآ آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ العذاب والعنهم لَعْناً كَبِيراً‏}‏ ‏[‏الاحزاب‏:‏ 67، 68‏]‏‏.‏

ثم يتساءل اهل الكفر في النار عن الذين آمنوا من الضعفاء وفقراء المسلمينن فيقولون‏:‏ ما لنا لا نرى رجالاً كنّ نعدّهم في الدنيا من الاشرار الذي لا خير فيهم، وقد كنّا نسخَر منهم في الدنيا ونهزأ بهم فأين هم‏؟‏ ام ان اعيننا زاغت عنهم فلا نراهم‏!‏‏.‏

ثم يبين الله تعالى ان هذا التساؤل وهذا الكلام والتخاصم مع بعضهم البعض حقٌّ يوم القيامة لا مرية فيه فيقول‏:‏ ‏{‏إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النار‏}‏‏.‏

قراءات‏:‏

قرأ حمزة والكسائي وابو عمرو‏:‏ اتخذناهم على الاخبار، وقرأ الباقون‏:‏ أتخذناهم بفتح الهمزة على الاستفهام‏.‏ وقرأ نافع وحمزة والكسائي‏:‏ سُخريا بضم السين، والباقون بكسرها، وهما لغتان‏.‏

وقرأ ابن كثير وابوعمرو‏:‏ هذا ما يوعدون بالياء‏.‏ والباقون‏:‏ بالتاء‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏65- 88‏]‏

‏{‏قُلْ إِنَّمَا أَنَا مُنْذِرٌ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ‏(‏65‏)‏ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ ‏(‏66‏)‏ قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ ‏(‏67‏)‏ أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ ‏(‏68‏)‏ مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ ‏(‏69‏)‏ إِنْ يُوحَى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ ‏(‏70‏)‏ إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ ‏(‏71‏)‏ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ ‏(‏72‏)‏ فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ ‏(‏73‏)‏ إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ ‏(‏74‏)‏ قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ ‏(‏75‏)‏ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ ‏(‏76‏)‏ قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ ‏(‏77‏)‏ وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ ‏(‏78‏)‏ قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ‏(‏79‏)‏ قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ ‏(‏80‏)‏ إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ ‏(‏81‏)‏ قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ‏(‏82‏)‏ إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ‏(‏83‏)‏ قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ ‏(‏84‏)‏ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ ‏(‏85‏)‏ قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ ‏(‏86‏)‏ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ ‏(‏87‏)‏ وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ ‏(‏88‏)‏‏}‏

الملأ الاعلى‏:‏ الملائكة‏.‏ فقعوا له‏:‏ اسجدوا له‏.‏ خلقتُ بيدي‏:‏ بقدرتي من غير أبٍ ولا أُم‏.‏ العالين‏:‏ المتكبرين‏.‏ فاخرجْ منها‏:‏ من الجنة‏.‏ فأنظِرني‏:‏ فأمهلني‏.‏ الى يوم يبعثون‏:‏ الى يوم القيامة‏.‏ المخلَصين‏:‏ بفتح اللام‏:‏ الذين استخلصتُهم للعبادة‏.‏

في ختام السورة تعود الى تقرير القضايا التي عرضت لها في اولها وهي قضية التوحيد، والوحي والجزاء في الآخرة، ثم تستعرض قصة آدم، دليلا على الوحي بما دار في الملأ الاعلى، وتتضمن حسد إبليس لأدم وطرده من رحمة الله، ثم دوام المعركة بين الشيطان وابناء آدم التي ستدوم ما دامت الأرض والسماء‏.‏ ثم تختم السورة بتوكيد قصة الوحي، وان الرسول الكريم لا يُسأل على أدائه الرسالة اجراً، وما هذا القرآن الا ذكر للعالمين‏.‏

قل يا محمد للمشركين‏:‏ ما انا الا نذير مرسَل من قِبل رب الاله الواحد القهار، مالكِ هذا الكون بما فيه، وهو مع ذلك كله عزيز لا يُغلب، غفار يتجاوز عن الذنوب، ويقبل التوبة‏.‏‏.‏ إذا سبقتْ رحمته غضبه‏.‏

وقل لهم‏:‏ إن ما أقوله لكم من الوحي امرٌ عظيم، اكبر مما تظنون وما تفكرون‏.‏ أنتم تعلمون حالي، كنت لا أعلم شيئا قبل ان يأتيني الوحي، وما كان لي اي علم باختلاف الملأ الاعلى في قضية آدم، فأنا لم اجلس الى معلّم، ولا دخلت مدرسة، وطريق علمي هو الوحي من عند رب العالمين‏.‏ وما يوحى إلي إلا أن أنذركم وأبلّغكم رسالة ربي بأوضح تعبير‏.‏

ثم تأتي قصة آدم وقد تقدمت في سورة البقرة والاعراف والحِجر والإسراء والكهف، وفي كل مرة تأتي بأسلوب جديد‏.‏ ومعنى ‏{‏وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي‏}‏ جعلتُ في هذا الطين سر الحياة‏.‏ وقد طلب الله من الملائكة ان يسجدوا لآدم سجود تعظيم فأطاعوا الا ابليس استكبر، وحسد آدم وقال إنه خير منه، فطرده الله من رحمته‏.‏ وطلب ابليس ان يُنظره الله الى يوم القيامة‏.‏

‏{‏قَالَ إِنَّكَ مِنَ المُنظَرِينَ‏}‏ المُمْهَلين الى ذلك اليوم المعيَّن‏.‏

فحلف ابليس بعزة الله الخالق انه لَيُغوينَّ بني آدم الا الذين آمنوا باخلاص وصِدق، فانه لا سلطان له عليهم، وهان يقول تعالى‏:‏

‏{‏قَالَ فالحق والحق أَقُولُ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ‏}‏

الحق يميني وقسَمي، ولا اقول الا الحق، لملأن جهنم من جنسك واتباعك من الشياطين، وممن تبعك من بني آدم‏.‏

ثم تختم السورة بهذه الآيات الكريمة‏:‏

‏{‏قُلْ مَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَآ أَنَآ مِنَ المتكلفين إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ‏}‏

قل يا محمد لأمتك‏:‏ ما أسألكم على تبليغ ما يوحى اليّ اجراً، وما انا من الذين يتصنعون ويتكلفون حتى أدّعي النبوة، وما هذا القرآن الا تذكير وعظة للعالمين جميعا، ولتعلمُنَّ أيها المكذّبون به صِدق ما اشتمل عليه من الخير للبشرية جمعاء بعد حين‏.‏ صدق الله العظيم‏.‏

سورة الزمر

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 4‏]‏

‏{‏تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ ‏(‏1‏)‏ إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ ‏(‏2‏)‏ أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ ‏(‏3‏)‏ لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لَاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ‏(‏4‏)‏‏}‏

زلفى‏:‏ قربى‏.‏ اصطفى‏:‏ اختار‏.‏

ان هذا الكتاب العظيم مُنزل من عند الله العزيز الحكيم، أنزلناه اليك ايها النبي آمراً بالحق لإظهاره وتفصيله للناس، فاعبد الله ‏{‏مُخْلِصاً لَّهُ الدين‏}‏ لا شِرك فيه ولا باطل‏.‏

‏{‏أَلاَ لِلَّهِ الدين الخالص‏}‏

فالعبادة يجب ان تكون لله وحده، خالصة له، وكذلك جميع الأعمال‏.‏

في الحديث الصحيح‏:‏ «جاء رجلٌ الى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ يا رسول الله، إني أتصدق بالشيء وأَصنع الشيء أريد به وجه الله وثناء الناس، فقال الرسول الكريم‏:‏ والذي نفسُ محمدٍ بيده، لا يقبل الله شيئا شُورك فيه، ثم تلا قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَلاَ لِلَّهِ الدين الخالص‏}‏»

وبعد ان بين تعالى ان رأس العبادة الاخلاص، أعقب ذلك بذّم طريق المشركين، الذين اتخذوا من دون الله أولياء يعبدونهم، ويقولون‏:‏ ما نعبدهم الا ليقرّبونا عند الله منزلة ويشفعوا لنا‏.‏

‏{‏إِنَّ الله يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ‏}‏ فيه من أمرِ الشِرك والتوحيد، وهو لا يوفق للهداية من هو كثير الكذب والكفر‏.‏

ولو اراد الله ان يتخذ ولدا، لاختار من خلْقه كما يشاء، ولكنه لم يلد ولم يولد، وهو منزه عن هذا كله ‏{‏هُوَ الله الواحد القهار‏}‏ وكل ما سواه مفتقرٌ إليه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏5- 8‏]‏

‏{‏خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلَا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ ‏(‏5‏)‏ خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ ‏(‏6‏)‏ إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ‏(‏7‏)‏ وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ ‏(‏8‏)‏‏}‏

يكوّر الليل على النهار‏:‏ يلفّ الليلَ على النهار، والنهارَ على الليل، ويدخلهما في بعض وذلك بفعل دوران الأرض حول نفسها فيُحدِث الليل والنهار‏.‏ لأجل مسمى‏:‏ يوم القيامة‏.‏ أنزل لكم من الأنعام‏:‏ خلقَ لكم من الانعام‏.‏ في ظلماتٍ ثلاث‏:‏ ظُلمة البطن، وظلمة الرحم داخله، وظلمة المشيمة‏.‏ فأنى تصرفون‏:‏ فإلى أين يعدِل بكم عن عبادة الله الى الشِرك‏.‏ الوزر‏:‏ الذنب‏.‏ ولا تزر وازرة وزر اخرى‏:‏ لا تحمل نفسٌ آثمة حمل أخرى‏.‏ بذات الصدور‏:‏ بما يدور في نفس الانسان‏.‏ منيباً إليه‏:‏ راجعاً اليه بالطاعة، تائبا‏.‏ خوّله‏:‏ ملكه‏.‏ اندادا‏:‏ جمع نِدّ وهو المثل‏.‏

خلق الله هذا الكون بما فيه بأبدع نظام وأروع هيئة فهو‏:‏

‏{‏يُكَوِّرُ الليل عَلَى النهار وَيُكَوِّرُ النهار عَلَى الليل‏}‏

وهذا تعبير عجيب ينطق بالحقّ والواقع، فإن تعاقُبَ الليل والنهار لا يحصلان الا لكروية الأرض ودورانها حول نفسها، فالتكوير معناه لفُّ الشيء على الشيء على سبيل التتابع، وهذا لم يُعلم الا منذ سنين معدودة‏.‏ وهذا اكبر دليل على ان القرآن ليس من صنع البشر بل ‏{‏تَنزِيلُ الكتاب مِنَ الله العزيز الحكيم‏}‏‏.‏

‏{‏وَسَخَّرَ الشمس والقمر كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى أَلا هُوَ العزيز الغفار‏}‏

وجعل الشمس والقمر كل منهما يجري لوقت معلوم، وكذلك دوران الشمس وجريانها لم يكتُشَف الا بعد الرسول، وفي بدء دراستنا نحن وأبناء جيلنا مثلاً كان معلمو الجغرافيا يقولون لنا إن الشمس لا تجري، وكل هذه الكواكب تدور حولها‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏

ثم بعد أن بيّن تعالى أن هذا النظام من خلقه وإبداعه، وانه مسخّرٌ للإنسان- ذيّل هذه الآية بقوله ‏{‏أَلا هُوَ العزيز الغفار‏}‏ حتى يبين للناس بأنه غفور رحيم، فلا يقنطون من رحمته بل يسارعون الى طلب المغفرة والرجوع اليه‏.‏

لقد خلقكم الله ايها الناس من نفسٍ واحدة، وخلق من هذه النفس زوجاً لها، وخلق لكم من الانعام ثمانية أزواج هي‏:‏ الإبل والبقر والضأن والماعز، فهذه اربعة انواع ثمانية أزواج، يخلقكم في بطون أمهاتكم طورا بعد طور في ظلمات ثلاث، هي‏:‏ ظلمة البطن، وظلمة الرحم، وظلمة المشيمة‏.‏ ان خالق هذه الأمور العجيبة هو الله المنعم المتفضّل، ربكم ومالكُ امركم، له الملك على الاطلاق في الدنيا والآخرة، لا معبود بحقٍّ سواه، فكيف تعدِلون عن عبادته الى عبادة يغره‏؟‏ اين ذهبت عقولكم‏!‏‏؟‏‏.‏

وبعد ان اقام الدليل على وحدانيته، وبيّن أن المشركين ذهبت عقولُهم حين عبدوا الأصنام- بين هنا ان الله هو الغني عما سواه من المخلوقات، فهو لا يريد بعبادته جَرَّ منفعة، ولادفع مضرة، ولكنه لا يرضى لعباده الكفر، ‏{‏وَإِن تَشْكُرُواْ يَرْضَهُ لَكُمْ‏}‏ فكل نفس مطالَبةٌ بما عملت، وبعدئذ تُردّ الى عالم الغيب والشهادة فيجازيها بما كسبت‏.‏

وهذا مبدأ جاء به الاسلام، وأصّله القرآن الكريم، ولم يستقرّ في فقه القانون الا في العصور الحديثة‏.‏

ثم بين تناقُضَ المشركين فيما يفعلون، فاذا أصابهم الضرُّ رجعوا في طلب دفْعه الى الله‏.‏

‏{‏وَإِذَا مَسَّ الإنسان ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِّنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يدعوا إِلَيْهِ مِن قَبْلُ‏}‏ وعاد الى عبادة الأوثان‏.‏

ثم أمر الله رسوله ان يقول لهم متهكّما بهم‏:‏

‏{‏قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النار‏}‏ مخلَّد فيها‏.‏

قراءات‏:‏

قرأ ابن كثير ونافع وابو عمرو والكسائي‏:‏ وان تشكروا يرضهُ لكم باشباع ضمة الهاء‏.‏ وقرأ يعقوب يرضهْ باسكان الهاء‏.‏ والباقون‏:‏ يرضهُ بضم الهاء بدون مد ولا اشباع‏.‏ وقرأ ابن كثير وابو عمرو ورويس‏:‏ لِيَضِل عن سبيله بفتح الياء من يضل‏.‏ والباقون‏:‏ لِيُضل بضم الياء‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏9- 16‏]‏

‏{‏أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ آَنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآَخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ ‏(‏9‏)‏ قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ‏(‏10‏)‏ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ ‏(‏11‏)‏ وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ ‏(‏12‏)‏ قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ‏(‏13‏)‏ قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي ‏(‏14‏)‏ فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ ‏(‏15‏)‏ لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ ‏(‏16‏)‏‏}‏

قانت‏:‏ قائم بما يجب عليه من الطاعة‏.‏ آناء الليل‏:‏ ساعاته، واحدها آن‏.‏ يحذر الآخرة‏:‏ يخشى عذابها‏.‏ ظُلل‏:‏ جمع ظُلة، ما يستظل به من حر او برد‏.‏

بعد ان ذكر الله من يؤمن عندما يمسَه ضر، ويكفر عند السرّاء- بين انه ليس سواءً عند اله مع من هو قانت يعبد الله في جميع حالاته، ولا تزيده النعمة الا إيماناً وشكراً، رجاءَ رحمة ربه‏.‏ قل لهم ايها الرسول‏:‏ هل يستوي الذين يعلمون حقوق الله، والذين لا يعلمون‏!‏ انما يعتبر ويتعظ اولو الألباب، اصحاب العقول الواعية المدركة‏.‏

وقدر كرر الله تعالى هذا التعبير ‏{‏أُوْلُو الألباب‏}‏ ثلاثَ مرات في هذه السورة الكريمة دلالة على قيمة من يستعمل عقله ويفكر تفكيراً سليما‏.‏

وبعد اننفى المساواة بين من يعبد الله في جميع حالاته ومن يلجأ اليه عند الاضطرار وينساه عند النعمة، ثم من يعلم ومن لا يعلم- امر رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم ان ينصح المؤمنين بجملة نصائح‏.‏

1- قل ايها النبي‏:‏ يا عبادي الذين آمنوا بي، اتقوا ربكم بالأعمال الصالحة، فان الله قرر ان يُجزل الحسناتِ للذين آمنوا‏.‏ واذا تعذرتْ طاعته في بلدٍ فتحولوا عنه الى بلد غيره ‏{‏وَأَرْضُ الله وَاسِعَةٌ‏}‏‏.‏ ثم بيّن فضيلة الصبر، وأن جزاءها للصابرين بغير حساب‏.‏ وهل هناك وعدٌ أعظم من هذا الجزاء‏!‏

2- وقل لهم‏:‏ إني أُمرت بعبادة الله مخلصاً له الدين، ولا تنظر لي ما يقوله كفار قريش بأن تعود الى ملّة أبيك وجدّك وتعبد الاصنام‏.‏ فاعتبِروا ايها المسلمون واتبعوا رسولكم الكريم وأخلصوا العبادة والطاعة لله‏.‏

3- وقل لهم‏:‏ إني أخاف عذابَ يوم القيامة ان عصيتُ ربي، ولذلك فإني أعبد الله مخلصاً له ديني، فأخلِصوا بعبادتكم لله‏.‏

4- اما انتم ايها الجاحدون فاعبدوا ما شئتم من الأصنام والأرباب من دون الله‏.‏ وذكِّرهم ايها الرسول ان الخاسرين هم الذين أضاعوا أنفسَهم بضلالهم، وخسروا أهلهم بإضلالهم، وان ذلك هو الخسران الكبير‏.‏

ثم فصّل ذلك الخسران وبينه بقوله تعالى‏:‏

‏{‏لَهُمْ مِّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِّنَ النار وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ الله بِهِ عِبَادَهُ‏}‏

طقات متراكمة من النار حتى تحيط بهم النار من كل جانب‏.‏ هذا ما خوّف الله به عباده وحذّرهم منه، فاتقون يا عبادي واحذروا ذلك الشر العظيم‏.‏ وتلك منّةٌ من الله تعالى تنطوي على غاية اللطف والرحمة منه وهو الغفور الرحيم دائما‏.‏

قراءات‏:‏

قرأ ابن كثير ونافع وحمزة‏:‏ أمَن هو قانت‏:‏ بفتح الميم بدون تشديد‏.‏ والباقون‏:‏ أمّن بفتح الميم المشددة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏17- 21‏]‏

‏{‏وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ ‏(‏17‏)‏ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ ‏(‏18‏)‏ أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ ‏(‏19‏)‏ لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ ‏(‏20‏)‏ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ ‏(‏21‏)‏‏}‏

الطاغوت‏:‏ الطاغي المعتدي وكل رأسٍ في الضلال، وكل ما عُبد من دون الله‏.‏ فسلكه‏:‏ فأدخله‏.‏ مختفا ألوانه‏:‏ مختلفا انواعه‏.‏ يهيج‏:‏ يجفّ ويبلغ نهايته‏.‏ حطاما‏:‏ فُتاتا مثل التبن‏.‏

بعد ان ذكر وعيده لعَبَدة الأصنام، بيّن هنا ما أعده للذين آمنوا واجتنبوا ذلك وأنابوا الى الله ورجعوا اليه‏.‏ هؤلاء لهم البشارةُ العظيمة من الله، فبشرّ أيها الرسول عبادي الذين يستمعون القول، فيتّبعون أحسنه وأهداه- بأنهم هم الذين وفقهم الله للرشاد، وهم أًحاب العقول المدركة النيّرة‏.‏

ثم بيّ الذين انحرفوا فحقّت عليهم كلمةُ العذاب‏.‏ ويخاطب بذلك رسوله الكريم فيقول‏:‏

‏{‏أَفَأَنتَ تُنقِذُ مَن فِي النار‏؟‏‏}‏ ليس يمكنك ان تنقذ هؤلاء الذين كفروا ووجبت عليهم النار‏.‏

ثم كرر القول في الذين آمنوا واتقوا، عنايةً بأمرهم، فقال‏:‏

‏{‏لكن الذين اتقوا رَبَّهُمْ‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏

سيكون لهم في أعالي الجنان غرف مبنيّة بأحسن طراز، بعضُها فوق بعض، تجري من تحتها الأنهار‏.‏ هذا وعد من الله، والله لا يخلف وعده‏.‏

وبعد ذلك اعقب بذكر صفات الدنيا وأنهار زائلة مهما طال عمر الانسان فيها، تحذيراً من الاغترار بما فيها من متعة، فمثّل حالها بحال نباتٍ يُسقى بماء المطر فيخرج به زرعٌ مختلف الأصناف والانواع والالوان‏.‏ بعد ذلك يجفّ الزرع ويصير حطاماً يابسا، فما اسرع زواله‏!‏‏.‏

‏{‏إِنَّ فِي ذَلِكَ لذكرى لأُوْلِي الألباب‏}‏

ان في هذا الذي بينّاه لَذكرى لأصحاب العقول المدركة فلا تغتروا بها وببهجتها‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏22- 24‏]‏

‏{‏أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ‏(‏22‏)‏ اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ‏(‏23‏)‏ أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ ‏(‏24‏)‏‏}‏

شرح الله صدره‏:‏ اناره بالاسلام وجعله مطمئنا‏.‏ فهو على نور‏:‏ على هدى وبصيرة‏.‏ للقاسية قلوبهم‏:‏ الجامدة المظلمة التي لا تلين‏.‏ احسن الحديث‏:‏ القرآن‏.‏ متشابها‏:‏ متناسقا، يشبه بعضه بعضا في نَسَقه واسلوبه‏.‏ مثاني‏:‏ جمع مثنى‏:‏ يتكرر المعنى بعدة اساليب تقشعرّ‏:‏ تخشع وترتعد من الرهبة‏.‏ تلين جلودُهم‏:‏ تطمئن‏.‏

هل كان الناس سواه‏؟‏ أفمن دخل نورُ الاسلام قلبه وهداه الله فهو على بصيرة من ربه كمن أعرض عن ذكر الله، وطُبع على قلبه‏!‏ ويلٌ لمن قسَت قلوبهم عن ذكر الله، ‏{‏أولئك فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ‏}‏ وشتّان بين الفئتين‏.‏

الله نزل احسن الحديث كتاباً متناسقا لا اختلاف في معانيه والفاظه، وهو في الذروة في الإعجاز والمواعظ والأحكام، تكرر مقاطعه وققصه وتوجيهاته ومشاهدة، ولكنها لا تختلف ولا تتعارض، بل تُعاد في تناسق على أصول ثابتة متشابهة لا ولا تصادم فيها‏.‏ فاذا تليت آياته اقشعرّت جلود الذين يخشَون ربهم، ووجلت قلوبهم، ثم تلين جلودهم، وتطمئن قلوبهم الى ذكر الله، ذلك الكتاب هدى الله يهدي به من يشاء، ومن يضلله الله فليس له من يهديه‏.‏

‏{‏أَفَمَن يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سواء العذاب يَوْمَ القيامة‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ لأن يده مغلولةٌ الى عنقه، كمن هو آمن لا يعتريه سوء، ويأتي آمنا يوم القيامة‏!‏

‏{‏وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ‏}‏ القَوا جزاء أعمالكم الشريرة من الكفر والعصيان والجحود‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏25- 31‏]‏

‏{‏كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ ‏(‏25‏)‏ فَأَذَاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآَخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ‏(‏26‏)‏ وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآَنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ‏(‏27‏)‏ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ‏(‏28‏)‏ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏29‏)‏ إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ ‏(‏30‏)‏ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ ‏(‏31‏)‏‏}‏

غير ذي عوج‏:‏ مستقيم على الحق، لا اختلاف فيه‏.‏ متشاكسون‏:‏ مختلفون يتنازعون‏.‏ سلما‏:‏ خالصا لسيد واحد لا ينازعه فيه احد‏.‏ ميت‏:‏ ستموت‏.‏ وميْت باسكان الياء‏:‏ الذي مات‏.‏ تختصمون‏:‏ تتجادلون‏.‏

ثم يعرض الكتابُ حال المكذّبين لرسول الله ويذكر ما جرى للمكذّبين من الأمم الماضية قبلهم لعلّهم يتعظون ويرجعون عن كفرهم وجحودهم‏.‏ ان بعض الأمم الماضية كذّبت رسُلَها في الدنيا فأتاها العذابُ نم حيث لا تَحتسِب ولا يخطر لها على بال‏.‏

فأذاقهم الله الذلّ والصَّغار في الدنيا، وفي الآخرة ينتظرهم العذاب الاكبر ‏{‏لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ‏}‏ ولكنهم عن ذلك كله غافلون‏.‏

ولقد بينّا للناس في هذا القرآن من كل مثل يذكّرهم بالحق ‏{‏لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ‏}‏، وأنزلناه قرآنا عربياً بلسانه ليفهموه، ولكنه إنسانيُّ للناس كافة لا يحدُّه ومانٌ ولا مكان‏.‏ وهو ‏{‏عِوَجٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ‏}‏ بل مستقيم في مبناه ومحتواه‏.‏

وبعد ان ذكر الحكمة في ضرب الامثال للناس، جاء بمثل هنا فيه عبرة فقال‏:‏

‏{‏ضَرَبَ الله مَثَلاً رَّجُلاً فِيهِ شُرَكَآءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِّرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً الحمد للَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ‏}‏‏.‏

ان المشرك الذي يعبد اكثر من إله هو أشبه بعبدٍ مملوك لجماعة مختلفين متشاكسين فيه فلا يتفقون على شيء، ولا يستطيع هو تلبية طلبات الجميع‏.‏

اما المؤمن الموحِّد الذي يعبد إلهاً واحداً فهو أشبه ما يكون بعبد يمتلكه رجل واحد، فالاثنان لا يستويان ابدا‏.‏ الحمد لله على إقامة الحجة على الناس، ولكن أكثرهم لا يعلمون الحق‏.‏

ثم بين الله تعالى ان مصير الجميع اليه، وان النبي الكريم ميت وهم ميتون، وانهم يختصمون يوم القيامة بين يديه وهو الحَكَم العدل، يجازي كلاًّ على ما قدم‏.‏

قراءات‏:‏

قرا ابن كثير وابو عمر‏:‏ ورجلا سالما‏:‏ بمعنى خالصا‏.‏ والباقون‏:‏ سَلَما‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏32- 37‏]‏

‏{‏فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ ‏(‏32‏)‏ وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ‏(‏33‏)‏ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ ‏(‏34‏)‏ لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏35‏)‏ أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ‏(‏36‏)‏ وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقَامٍ ‏(‏37‏)‏‏}‏

مثوى‏:‏ مقاما والفعل ثوى بالمكان أقام‏.‏ والذي جاء بالصدق‏:‏ محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ وصدّق به‏:‏ أصحابه الكرام واتباعه‏.‏

ليس هناك اظلم ممن كذب على الله فنسب اليه ما ليس فيه، وأنكر الحق حين جاءه على لسان الرسُل، فمثلُ هؤلاء الناس ستكون إقامتهم في جهنم كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْكَافِرِينَ‏}‏‏.‏

ثم بين حال الصادقين المصدّقين، وما ينتظرهم من حسن جزاء وكرم ضيافة، هم ومن جاءهم بالصدق، وهو الرسول الكريم، والذين ساروا على نهجه، ‏{‏أولئك هُمُ المتقون‏}‏ لهم من الكرامة عند ربهم ما يشاؤون ويحبون‏.‏ وذلك جزاء كل من احسن عملا، وأخلص في دينه‏.‏

والله سبحانه وتعالى سيكفّر عنهم أسوأ ما عملوا من السيئات في الدنيا ويغفر لهم كل ذنوبهم ‏{‏وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الذي كَانُواْ يَعْمَلُونَ‏}‏ وهذا يدل على سعة رحمة الله، وعظيمة غفرانه والحمد لله‏.‏

ثم بين الله تعالى انه مع رسوله الكريم، فلا يستطيع احد ان يؤذي ذلك الرسول والله وحده يكفيه كل ما يهمه‏.‏ انهم يخوفونك يا محمد بآلهتهم واصنامهم، وذلك من ضلالهم وتعاستهم‏.‏ يقولون لك‏:‏ أتسبّ آلهتنا‏؟‏ لئن لم تكفّ عنها لنصيبنّك بسوء‏.‏ لا تخف منهم فانهم لن يضرّوك أبدا، ‏{‏وَمَن يُضْلِلِ الله فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ وَمَن يَهْدِ الله فَمَا لَهُ مِن مُّضِلٍّ‏}‏ والله هو العزيز الذي بيده كل شيء، لا يغالَب، وهو ذو انتقام من أعدائه لأوليائه، يحفظهم ويمنعهم من كل شيء‏.‏

قراءت‏:‏

قرأ حمزة والكسائي وخلف‏:‏ اليس الله بكافٍ عبادَه بالجمع‏.‏ والباقون‏:‏ عبده بالافراد‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏38- 45‏]‏

‏{‏وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ ‏(‏38‏)‏ قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ‏(‏39‏)‏ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ ‏(‏40‏)‏ إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ ‏(‏41‏)‏ اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ‏(‏42‏)‏ أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ ‏(‏43‏)‏ قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ‏(‏44‏)‏ وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ ‏(‏45‏)‏‏}‏

حسبي‏:‏ كافيني‏.‏ من دونه‏:‏ الاصنام‏.‏ مكانتكم‏:‏ الحال التي انتم عليها‏.‏ اشمأزت‏:‏ ضاقت ونفرت، انقبضت‏.‏

بعد ان بين الله تعالى حال المؤمنين في الجنة، حيث يتمتعون بنعيمها ويؤتيهم الله ما يشاؤون- يؤكد هنا انه يكفيهم في الدنيا ما أهمَّهم، ولا يضيرهم ما يخوّفهم به المشركون من غضب الأوثان وما يعبدون من آلهة مزيفة‏.‏ فالأمور كلها بيد الله‏.‏ كذلك بيّن ان قول المشركين يخالف فعلهم، فحين تسألهم‏:‏ من خلق السموات والارض‏؟‏ يقولون‏:‏ الله‏.‏ وهم مع ذلك يعبدون غيره‏.‏

ثم يسألهم سؤال تعجيز‏:‏

‏{‏أَفَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ الله إِنْ أَرَادَنِيَ الله بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ‏؟‏‏}‏ كلا، طبعا‏.‏ وما دامت هذه الاصنام لا تنفع ولا تضر، فقل يا محمد ‏{‏قُلْ حَسْبِيَ الله عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ المتوكلون‏}‏‏.‏

ثم أمر رسوله الكريم ان يقول لهم‏:‏

‏{‏قُلْ ياقوم اعملوا على مَكَانَتِكُمْ‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏

اعملوا ما تشاؤون وعلى الحال التي تحبو، اني عاملٌ حسب ما أمرني الله، ويوم الحساب ترون المحقَّ من المبطِل، ومن سيحل عليه عذاب مقيم يخزيه يوم يقوم الناس لرب العالمين‏.‏

وبعد ان حاجّهم الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم بالأدلة القاطعة على وحدانية الله تعالى- بيّن الله تعالى أنه انما انزل عليه القرآن بالحق وليس عليه الا إبلاغه للناس، فمن اهتدى فقد فاز، ومن ضل فعليه وزره يتحمله، ‏{‏وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ‏}‏ لتجبرهم على الإيمان والهدى‏.‏

ثم بين الله تعالى انه يأمر بقبض الأرواح حين موتها بانتهاء أجلها، ويقبض الأرواح التي لم يحنْ اجلُها حين نومها، فيمسك التي قضى عليها الموت لا يردّها الى بدنها، ويرسل الاخرى التي لم يحن أجلها عند اليقظة الى أجل محدد عنده‏.‏ ‏{‏إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ‏}‏ من اهل العقول المفكرة المدبرة‏.‏

ثم بين ان الاصنام التي اتُخذت شفعاء لا تملك لنفسهاشيئاً ولا تعقل شيئا، فكيف تشفع لهم‏؟‏‏.‏

قل لهم يا محمد‏:‏ الشفاعة لله وحده، وله وحده ملك السموات والارض‏.‏ ‏{‏ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ‏}‏‏.‏

ثم بين الله معايب المشركين وسُخفهم بانه اذا قيل لا اله الا الله وحده نفرت قلوبهم وانقبضت وظهر الاشمئزاز على وجوههم، واذا ذُكرت آلهتهم التي يعبدونها من دون الله ‏{‏إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ‏}‏ ويفرحون‏.‏

قراءات‏:‏ قرأ ابو عمرو والكسائي عن ابي بكر‏:‏ كاشفاتٍ ضره‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ ممسكاتٍ رحمته‏.‏ بتنوين كاشفات وممسكات، ونصب ضره ورحمته، والباقون بالاضافة كشافات ضره‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ وقرأ حمزة والكسائي‏:‏ فيمسك التي قُضي عليها‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ بالبناء للمفعول‏.‏ والباقون‏:‏ قَضى بفتح القاف والضاد‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏46- 52‏]‏

‏{‏قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ‏(‏46‏)‏ وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ ‏(‏47‏)‏ وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ‏(‏48‏)‏ فَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏49‏)‏ قَدْ قَالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ‏(‏50‏)‏ فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَؤُلَاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ ‏(‏51‏)‏ أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ‏(‏52‏)‏‏}‏

اللهمّ‏:‏ كلمة تستعمل للنداء، يا الله‏.‏ حاق بهم‏:‏ أصابهم، وأحاط بهم‏.‏ خولناه‏:‏ أعطيناه‏.‏ فتنة‏:‏ بليّة، مصيبة، لأن النعمة قد تكون فتنة احيانا‏.‏

قل يا محمد متوجهاً الى مولاك‏:‏ يا الله، أنت خالق السموات والأرض، وعالم السر والعلَن، انت تحكم بين عبادك وتفصِل بينهم فيما كانوا يختلفون بشأنه في الدنيا‏.‏

وبعد ان علّم الله تعالى رسوله الكريم هذا الدعاء يعرِض حال الظالمين المخيفة يوم القيامة، يوم يرجعون للحكم والفصل‏.‏ ولو ان للذين ظلموا أنفسهم بالشِرك جميعَ ما في الارض وضعفه معه لدّموه فداءً لأنفسهم من سوء العذاب يوم القيامة، يوم يرون بأعينهم ما لم يخطر لهم على بال من العذاب الأليم، وتظهر لهم سيئاتهم التي عملوها في الدنيا، ويحيط بهم ما كانوا به يستهزئون‏.‏

ثم بين الله تعالى أن الانسان إذا اصابه ضر نادى الله متضرعاً، لكنه اذا اعطاه نعمة قال‏:‏ ما أوتيتُ هذه النعم الا لعلمٍ عندي، وجميل تدبيري، وقد غاب عنه ان الأمر ليس كما قال، بل ان هذه النعمة التي تفضّل الله بها عليه هي اختبارٌ له وفتنةٌ ليظهر الطائع من العاصي، ‏{‏ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ‏}‏‏.‏

ثم بين الله ان هذه مقالة قديمة قد سبقهم بها كثير من الأمم قبلهم فقال‏:‏

‏{‏قَدْ قَالَهَا الذين مِن قَبْلِهِمْ فَمَآ أغنى عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ‏}‏

فما دفع عنهم العذابَ كل ما اكتسبوه من مال ومتاع، فحلّ بالكفار السابقين جزاءُ سيئات أعمالهم، والذين كفروا من قومك وظلموا انفسهم ايها النبيّ، سيصيبهم ايضا وبالُ السيئات التي اكتسبوها‏.‏

‏{‏إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ‏}‏‏.‏

انما خص المؤمنين بذلك، لأنهم هم الذين يفكرون وينتفعون بايمانهم‏.‏ وقد تقدم مثل هذا المعنى في سورة الرعد 26، والاسراء 30، وغيرها من السور‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏53- 59‏]‏

‏{‏قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ‏(‏53‏)‏ وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ ‏(‏54‏)‏ وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ ‏(‏55‏)‏ أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ ‏(‏56‏)‏ أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ ‏(‏57‏)‏ أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ‏(‏58‏)‏ بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آَيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ ‏(‏59‏)‏‏}‏

اسرفوا على انفسهم‏:‏ تجاوزا الحد فيما فعلوه من المعاصي‏.‏ لا تقنطوا‏:‏ لا تيأسوا‏.‏ أنيبوا‏:‏ ارجعوا إلى ربكم‏.‏ وأسلموا‏:‏ أخلصوا له‏.‏ احسن ما انزل اليكم‏:‏ القرآن‏.‏ قرّطت‏:‏ اهملت وقصرت‏.‏ في جنب الله‏:‏ في حقه وطاعته‏.‏ لو ان لي كرّة‏:‏ لو ان لي رجعة‏.‏

‏{‏قُلْ ياعبادي الذين أَسْرَفُواْ على أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ الله‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏

ان هذه الآية الكريمة اعظم بشرى لنا نحن المؤمنين، فهي دعوة صريحة من الله لنا الى التوبة، ووعدٌ باعلفو ولاصفح عن كل ذنبٍ مهما كبر وعظم‏.‏ وقد ترك الله تعالى بابه مفتوحا للرجوع اليه امام من يريد ان يكفّر عن سيئاته، ويصلح ما أفسد من نفسه‏.‏

روى الامام احمد عن ثوبان مولى رسول الله قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «ما أحبّ أن لي الدنيا وما فيها بهذه الآية‏:‏ ‏{‏قُلْ ياعبادي الذين أَسْرَفُواْ على أَنفُسِهِمْ‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ فقال رجل‏:‏ يا رسول الله فمن أشرك‏؟‏ فسكت الرسول الكريم، ثم قال‏:‏ أَلا ومن الشرك- ثلاث مرات» الى احاديث كثيرة كلها تبشر بسعة رحمة الله، والبشرى بالمغفرة مهما جل الذنب وكبر، ويا لها من بشرى‏.‏ ‏{‏إِنَّ الله يَغْفِرُ الذنوب جَمِيعاً‏}‏ صدق الله العظيم‏.‏ ‏{‏إِنَّهُ هُوَ الغفور الرحيم‏}‏ فمن أبى هذا التفضل العظيم، والعطاء الجسين، وجعل يقنّط الناس، وتزمّتَ مثل كثير من وعَاظ زماننا، وبعض فئات المتدينين على جَهل- فقد ركب أعظم الشطط، فبشّروا ايها الناس ولا تنفروا، ويسروا ولا تعسروا، يرحمكم الله‏.‏

ثم امر سبحانه بشيئين‏:‏ فقال‏:‏

1- ‏{‏وأنيبوا إلى رَبِّكُمْ‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ اغتنموا هذه الفرصة ولا تضيعوها ايها الناس، وتبوا الى بارئكم‏.‏

2- ‏{‏واتبعوا أَحْسَنَ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏‏.‏

ثم بين بعد ذلك ان عاقبة من أهل التوبةَ هو ما يحل به من الندامة يوم القيامة فقال‏:‏

‏{‏أَن تَقُولَ نَفْسٌ ياحسرتا على مَا فَرَّطَتُ فِي جَنبِ الله وَإِن كُنتُ لَمِنَ الساخرين‏}‏‏.‏

بادروا الى العمل الصالح والتوبة واحذَروا ان تفوتكم الفصرة، فتوقل بعض الانفس يوم القيامة‏:‏ يا حسرتا على تقصيري وتفريطي في طاعة الله، وكثرة سخريتي واستهزائي بدين الله وكتابه ورسوله‏.‏ او تقول‏:‏ لو ان الله هداني الى دينه وطاعته لكنتُ من الفائزين‏.‏ او تقول حين ترى العذاب‏:‏ ليس لي رجعةً الى الدنيا فأكون من المهتدين‏.‏ فيقال له‏:‏

‏{‏بلى قَدْ جَآءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا‏}‏

ليس الأمر كما زعمتَ، ولا فائدة من ذلك، فقد جاءتك آياتي في الدنيا على لسان رسولي فكذّبته وكذّبت بآتي، واستكبرت عن قبولها ‏{‏وَكُنتَ مِنَ الكافرين‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏60- 67‏]‏

‏{‏وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ ‏(‏60‏)‏ وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ‏(‏61‏)‏ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ ‏(‏62‏)‏ لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ‏(‏63‏)‏ قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ ‏(‏64‏)‏ وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ‏(‏65‏)‏ بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ ‏(‏66‏)‏ وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ‏(‏67‏)‏‏}‏

وجوههم مسودّة‏:‏ كناية عن الذل والحسرة‏.‏ مثوى‏:‏ مقام‏.‏ بمفازتهم‏:‏ بفوزهم ونجاتهم‏.‏ وكيل‏:‏ قيم بالحفظ ولاحراسة‏.‏ مقاليد السموات والارض‏:‏ مفرده مقلاد ومقلد‏:‏ وتطلق على الخزانة والمفتاح‏.‏ ليحبطن عملك‏:‏ ليذهب هباء‏.‏ ما قدروا الله حق قدره‏:‏ ما عظّموه كما يليق به‏.‏ والأرض جميعا قَبضتُه‏:‏ في ملكه وتحت امره‏.‏ بيمينه‏:‏ بقدرته‏.‏

ويوم القيامة أيها الرسول يدل على الذين كذبوا على الله ذلٌّ وحسْرة ظاهرة على وجوههم‏.‏ ان في جعهنم مقاما كبيرا للمتكبرين‏.‏ وينجي الله من عذابه الذين اتقوا ربَّهم فلا يصيبهم سوء ولا هم يحزنون‏.‏‏.‏ لقد أمِنوا من كل خوف وشر، والله وحده خالق هذا الكون ‏{‏وَهُوَ على كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ‏}‏ قائم بالحفظ، يتولى التصرف بحسب حكمته‏.‏

‏{‏والذين كَفَرُواْ بِآيَاتِ الله‏}‏

لأنهم حُرموا من الرحمة يوم القيامة بخلودهم في النار‏.‏

قل لهم يا محمد‏:‏ أبعد وضوح الآيات على وحدانية الله تأمرونني ان أعبد غيره أيها الجاهلون‏!‏‏!‏

ثم بين الله تعالى أنه قد أوحى الى الرسول الكريم والأنبياء من قبله ان يكونوا موحِّدين ولا يشركون بالله شيئاً، ومن يشركْ يذهبْ عملُه هباءً ويكون من الخاسرين‏.‏

ثم بين لرسوله الكريم أن لا يجيب المشركين الى ما طلبوه من عبادة الأوثان، وان يعبد هو ومن اتبعه من المؤمنين الله وحده، وان يكون من الشاكرين لنعم الله التي لا تحصى‏.‏

ثم بين الله تعالى جهل اولئك الجاحدين بقوله‏:‏

‏{‏وَمَا قَدَرُواْ الله حَقَّ قَدْرِهِ‏}‏

اذ أشركوا معه غيره ودعوالرسول الى الشرك به، واللهُ سبحانه هو مالك هذا الكون، وتكون السموات مطوية بيمينه يوم القيامة ‏{‏سُبْحَانَهُ وتعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ‏}‏‏.‏

والغرض من هذا الكلام تصوير عظمة الله وجلاله، وكل ما يرد في القرآن الكريم من هذه الصورة والمشاهد انما هو من باب تقريب الحقائق الى أفهام الناس الذين لا يدركونها بغير ان توضع لهم في تعبير يدركونه‏.‏

قراءات‏:‏

قرأ الكوفيون غير حفص‏:‏ بمفازاتهم بالجمع، والباقون‏:‏ بمفازتهم‏.‏ وقرأ ابن عامر‏:‏ تأمرونني وقرأ ابن كثير‏:‏ تأمرونّيَ بتشديد النون وفتح الياء‏.‏ وقرأ ناف‏:‏ تأمرنيَ بتخفيف النون وفتح الياء‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏68- 72‏]‏

‏{‏وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ ‏(‏68‏)‏ وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ‏(‏69‏)‏ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ ‏(‏70‏)‏ وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آَيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ ‏(‏71‏)‏ قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ ‏(‏72‏)‏‏}‏

الصور‏:‏ بوق ينفخ فيه‏.‏ صُعق‏:‏ غشي عليه‏.‏ يَنظرون‏:‏ ينتظرون ماذا يفعل بهم‏.‏ واشرقت الارض‏:‏ اضاءت بنور الله وعدله‏.‏ ووضع الكتاب‏:‏ وهو صحائف الأعمال‏.‏ بالحق‏:‏ بالعدل‏.‏ وسيق الذين كفروا‏:‏ حثّوهم على السير‏.‏ زُمرا‏:‏ افواجا‏.‏ حقّت‏:‏ وجبت‏.‏

في هذه الآيات والتي بعدها تصوير حيّ لمشهد يوم القيامة وما فيه من حساب وجزاءه، وهو يبدأ بالنفخ في الصور ‏(‏وهو بوق لا ندري كيف شكله‏)‏ فيصعق جميع من في السموات والارض إلا من اراد الله ان يؤخرهم الى وقت آخر، ثم ينفخ فيه مرة اخرى فاذا الجميع قائمون من قبورهم ينتظرون ما يُفعل بهم‏.‏

واشرقت ارض المحشر بنور الله، ووُضع الكتاب الذي سُجلت فيه أعمالهم، وجيء بالانبياء والعدول ليشهدوا على الخلق‏.‏

‏{‏وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بالحق‏}‏

وفصل اللهُ بين الخلق بالعدل، فهم لا يُظلمون بنقص ثوابٍ او زيادة عقاب‏.‏ وأعطيت كل نفس جزاء ما عملت جزاء كاملا ‏{‏وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ‏}‏ دون حاجة الى كتاب او حاسب‏.‏ اما حشرُ الناس ومحاسبتهم ووضع الكتاب فهو لتكميل الحجة عليهم وقطع المعذرة‏.‏

ثم بعد ان يحاسَب كل انسان ويأخذ كتابه بيمينه او شماله ينقسم الناس فريقين‏:‏ ‏{‏فَرِيقٌ فِي الجنة وَفَرِيقٌ فِي السعير‏}‏ فيساق الذين كفروا الى جهنم جماعات جماعات، حتى اذا وصلوا الى جهنم تفتح لهم ابوابها، ويدخلونها مهانين، ويوبخهم خزنة جهنم بقولهم‏:‏ ‏{‏أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هذا‏}‏ فيجيبونهم معترفين ولا يقدروا على الجدل بقولهم‏:‏ ‏{‏بلى ولكن حَقَّتْ كَلِمَةُ العذاب عَلَى الكافرين‏}‏‏.‏ ثم يقال لهم ادخلوا ابواب جهنم خالدين فيها أبداً ‏{‏فَبِئْسَ مَثْوَى المتكبرين‏}‏ على الحق، والخارجين على العدل‏.‏

قراءات‏:‏

قرأ الكوفيون‏:‏ فتحت بتخفيف التاء‏.‏ والباقون‏:‏ فتحت بالتشديد‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏73- 75‏]‏

‏{‏وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ ‏(‏73‏)‏ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ ‏(‏74‏)‏ وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏75‏)‏‏}‏

حافين من حول العرش‏:‏ محيطين به‏.‏

بعد ان بين الله تعالى حالَ أهل النار وكيف يساقون الى جهنم جماعاتٍ باذلالاٍ وتوبيخ، وان ابواب جهنم لا تفتح لهم الا عند وصولهم اليها لتبقى امية تنتظرهم- يذكر هنا حالَ أهل الجنة وما ينتظرهم من استقبال طيب، وثناء ومدح وترحيب‏.‏ فهم يساقون الى الجنة جماعاتٍ، واذا وصلوها وجدوا ابوابها مفتوحة ليستنشقوا روائحها عن بعد‏.‏ وهناك يرحب بهم الملائكة بقولهم ‏{‏سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فادخلوها خَالِدِينَ‏}‏ فيها ابدا في ضيافة رب العالمين، ونعم الضيافة في ذلك النعيم الخاليد‏.‏

وعندما يستقرون فيه مكرّمين معززين يقولون‏:‏ ‏{‏الحمد للَّهِ الذي صَدَقَنَا وَعْدَهُ‏}‏ وحقق لنا ما وعدَنا به على لسان رسله، وملَّكنا الجنة ننزِل منها حيث ما نشاء ‏{‏فَنِعْمَ أَجْرُ العاملين‏}‏‏.‏

ويومها يكون الملائكة محيطين بالعرش، ينزّهون اللهَ عن كل نقص، ويكون قد قضى بين العباد، وذهب كلٌّ الى مأواه، ونطق الكون كله بحمد ربه‏.‏ ‏{‏وَقِيلَ الحمد لِلَّهِ رَبِّ العالمين‏}‏‏.‏

قراءات‏:‏

قرأ أهل الكوفة‏:‏ وفُتِحت بتخفيف التاء‏.‏ والباقون‏:‏ وفُتِّحت بتشديد التاء‏.‏

وهكذا تختم هذه السورة الجليلة بهذا المشهد الذي يغمر النفس بالروعة والرهبة والجلال، وقد بدأ الله سبحانه هذه الآية الأخيرة بالحمد وختمها بالحمد، وبهذا يختم المجلد الثالث ونسأ الله حسن الختام‏.‏

سورة غافر

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 6‏]‏

‏{‏حم ‏(‏1‏)‏ تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ‏(‏2‏)‏ غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ ‏(‏3‏)‏ مَا يُجَادِلُ فِي آَيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَادِ ‏(‏4‏)‏ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ ‏(‏5‏)‏ وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ ‏(‏6‏)‏‏}‏

التوب والتوبة‏:‏ معناهما واحد‏.‏ ذي الطَّول‏:‏ ذي الفضل‏.‏ يجادل‏:‏ يخاصم‏.‏ تقلُّبهم في البلاد‏:‏ تصرفهم فيها للتجارة ونحوها‏.‏ الأحزاب‏:‏ جميع الذين تحزبوا ضد رسلهم‏.‏ همّت‏:‏ عزمت على قتلهم‏.‏ ليأخذوه‏:‏ ليقتلوه أو يعذبوه‏.‏ ليدحضوا‏:‏ ليبطلوا‏.‏ حقت‏:‏ وجبت‏.‏ كلمة ربك‏:‏ حكمه بالهلاك‏.‏

حاميم هكذا تقرأ‏.‏ حرفان من حروف الهجاء، بدئت بهما السورة للاشارة الى ان القرآن مؤلف من جنس هذه الحروف، ومع ذلك عجِز المشركون عن الإتيان بأصغر سورة من مثله‏.‏

إن هذا القرآن منزَّل من عند الله الغالب القاهر، وهو الذي يغفر الذنبَ مهما جلّ، ويقبل التوبة من عباده في كل آن، فبابُه مفتوح دائما وابدا، فلا يقنط أحدٌ من ذلك‏.‏ وهو شديد العقاب، ومع هذا فهو صاحبُ الإنعام والفضل، لا معبودَ بحقٍّ الا هو، إليه وحده المرجع والمآل‏.‏

وقد كثر في القرآن الكريم الجمع بين الوصفين كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏نَبِّئ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الغفور الرحيم وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ العذاب الأليم‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 49-50‏]‏ ليبقى الناسُ بين الرجاء والخوف، ولكن الرحمة دائماً مقدَّمة على العذاب‏.‏

وبعد ان بيّن الله ان القرآن كتابٌ أُنزل لهداية الناس وسعادتهم في الدارَين، بيّن هنا أنه لا يخاصِم في هذا القرآن- بالطعن فيه وتكذيبه- الا الذين كفروا، فلا يخدعك أيها الرسول تقلّبُهم في البلاد وما يفعلونه من تجارة وكسب، ولا تغترَّ بسلامتهم، فإن عاقبتهم الهلاك‏.‏

ثم قال مسلّياً رسوله عن تكذيب مَن كذّبه من قومه بأن له أسوةً في الأنبياء مع اقوامهم من قبله بقوله‏:‏

‏{‏كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ والأحزاب مِن بَعْدِهِمْ‏}‏

الأحزابُ كل من تحزَّب ضد الحق واهله في كل زمان ومكان، وقصة الرسالة والتكذيب والطغيان طويلة طويلة على مدى القرون‏.‏

‏{‏وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ‏}‏

ليقتلوه او يعذّبوه، وخاصموا رسولهم بالباطل ليبطلوا به الحق الذي جاء به من عند الله‏.‏

‏{‏وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ‏}‏

ليقتلوه او يعذّبوه، وخاصموا رسولهم بالباطل ليبطلوا به الحق الذي جاء به من عند الله‏.‏

‏{‏فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ‏}‏

فاستأصلتهم فلم أُبْقِ منهم احدا وكان عقابي لهم شديداً مدمرا‏.‏

وكما حقت كلمةُ العذاب على الأمم التي كذّبت أنبياءها- حقّت كلمة ربك على الكافرين، لانهم اصحاب النار‏.‏ وهذا تحذير شديد لجميع المنحرفين من أهل الضلال‏.‏

قراءات‏:‏

قرأ نافع وابن عامر‏:‏ حقت كلمات بالجمع، والباقون‏:‏ كلمة بالافراد‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏7- 10‏]‏

‏{‏الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ ‏(‏7‏)‏ رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آَبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ‏(‏8‏)‏ وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ‏(‏9‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ ‏(‏10‏)‏‏}‏

العرش‏:‏ المُلْك، وسرير الملك‏.‏ وهنا معناه مركز تدبير العالم، ولا نعرف صفاته وكيف هو‏.‏ قِهِم‏:‏ احفظهم، من الفعل‏:‏ وقَى يقي‏.‏ مقْتُ الله‏:‏ اشدّ غضبه‏.‏

ثم بين الله تعالى ان حملة العرش من الملائكة، ومَن حول العرش مِنهم ‏{‏يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ‏}‏ وهم من بين القوى المؤمنة في هذا الوجود، يذكُرون المؤمنين عند ربهم ويستغفرون لهم ضارعين الى الله تعالى بقولهم‏:‏

‏{‏رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْماً فاغفر لِلَّذِينَ تَابُواْ‏}‏

اغفر لهم ذنوبهم بعد ان تابوا واستقاموا على هداك، وجنّبهم عذاب النار‏.‏

ويقول الملائكة‏:‏ ربنا أدخِل المؤمنين جناتِ الاقامة التي وعدْتهم بها على لسان رسُلك، وأدخل معهم الصالحين من آبائهم وأزواجهم وذريّاتهم، ‏{‏إِنَّكَ أَنتَ العزيز الحكيم‏}‏‏.‏

ويقولون في دعائهم ايضاً‏:‏ واحفظْهم يا رب من سوء عاقبة سيّئاتهم التي وقعوا فيها، ومَنْ جنّبتَه سيئاتِه يوم القيامة فقد رَحِمتَه بفضلك، ‏{‏وَذَلِكَ هُوَ الفوز العظيم‏}‏ بل هو أكبر فوز يحصل عليه المؤمن مكافأة له على ما قدّم من صالحات الأعمال‏.‏

وتنادي الملائكةُ الكافرين يوم القيامة وهم في أشد العذاب فيقولن لهم‏:‏ إن مَقْتَ الله لكم وغضبه عليكم في الدنيا على كفركم أشدُّ من مقتكم الآن لأنفسِكم، فقد دعاكم سبحانه بواسطة رسُله الى الإيمان فأبيتم إلا الكفر‏.‏ وما أوجعَ هذا التأنيبَ في هذا الموقف العصيب‏!‏‏!‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏11- 17‏]‏

‏{‏قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ ‏(‏11‏)‏ ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ ‏(‏12‏)‏ هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آَيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ ‏(‏13‏)‏ فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ‏(‏14‏)‏ رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ ‏(‏15‏)‏ يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ ‏(‏16‏)‏ الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ‏(‏17‏)‏‏}‏

أمتّنا اثنتين، وأوحييتنا اثنتين‏:‏ خلقتنا من العدم، ثم أمتّنا بعد انقضاء آجالنا‏.‏ وأحييتنا اثنتين‏:‏ عند ميلادنا، ويوم البعث يوم القيامة‏.‏ يوم التلاق‏:‏ يوم القيامة‏؟‏ بارزون‏:‏ ظاهرون‏.‏

ويقول الكافرون يوم القيامة‏:‏ يا ربنا أمتّنا موتَتين‏:‏ الأولى حين خلقْتَنا من العدم، والثانية يوم توفّيتنا عند انقضاء أجلنا‏.‏ وأحييتنا مرتين‏:‏ مرة هي حياتنا الدنيا، والثانية يوم بعثِنا هذا فاعترفنا أننا أنكرنا البعث وكفرنا وأذنبنا‏.‏ ونحن الآن قادمون، فهل من سبيل الى الخروج من النار، ولك منا عهدَ الطاعة والامتثال‏؟‏ فيجيبهم الله‏:‏ لا‏.‏

‏{‏ذَلِكُم بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ الله وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِن يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُواْ‏}‏

إنكم ان عدتم الى الدنيا فلن تؤمنوا، فقد كفرتم بالله، وآمنتم بالشركاء، وهذا العذابُ الذي انتم فيه من حُكم الله عليكم نتيجة لأعمالكم ‏{‏فالحكم للَّهِ العلي الكبير‏}‏‏.‏

هو الذي يريكم دلائل قدرته، وينزل لكم من السماء ماءً يكون سببَ رزقكم، لكنه لا يعتبر بتلك الآيات ويستدلّ بها على عظمة الخالقِ الأوحد الا من يُنيب إلى الله ويرجع اليه‏.‏

ثم لما ذكر ما وجّههم اليه من الأدلة على وحدانيته- أمر عباده بالدعاء والتوجه اليه‏:‏

‏{‏فادعوا الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدين وَلَوْ كَرِهَ الكافرون‏}‏

فادعوا الله مخلصين له العبادةَ ولو كره الكافرون عبادتكم‏.‏‏.‏ ولن يرضوا عنكم ابدا‏.‏ والدعاء عبادة، وفي الحديث الصحيح‏:‏ «ادعوا الله تباركَ وتعالى وانتم موقنون بالإجابة، واعلموا أن الله لا يستجيب دعاءَ قلبٍ غافل لاهٍ»‏.‏

ثم ذكر الله تعالى بعض صفاته بقوله‏:‏

‏{‏رَفِيعُ الدرجات ذُو العرش يُلْقِي الروح مِنْ أَمْرِهِ على مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنذِرَ يَوْمَ التلاق‏}‏‏.‏

فهو وحده صاحبُ المقام العالي، وصاحب المُلك والسلطة المطلقة، وهو الذي يلقي الوحيَ على من يشاء من رسُله‏.‏ وسمّى الوحيَ روحاً لأنه روحٌ وحياة للبشر‏.‏ وذلك لينذر هؤلاء الرسلُ الناسَ أنهم سيُبعثون يوم التلاقي ‏(‏وهو يوم القيامة‏)‏ حيث يتلاقون- في ذلك اليوم يبرزون مكشوفين ظاهرين لا يخفى على الله من أمرهم شيء، ويسمعون نداءً رهيباً‏:‏ ‏{‏لِّمَنِ الملك اليوم‏؟‏‏}‏ ويأتي الجواب الحاسم ‏{‏لِلَّهِ الواحد القهار‏}‏‏.‏ وفي ذلك اليوم يتضاءل المتكبرون، ويقف الوجود كله خاشعاً، والعباد كلهم خاضعين‏.‏

في ذلك اليوم الرهيب يُثاب كلُّ عامل بعمله، ويقال بوضوح‏:‏ ‏{‏لاَ ظُلْمَ اليوم‏}‏ فإنه يوم الجزاء الحق، ويوم العدل، والقضاء الفصل، هذا كله يسير بسرعة ‏{‏إِنَّ الله سَرِيعُ الحساب‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏18- 22‏]‏

‏{‏وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآَزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ ‏(‏18‏)‏ يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ ‏(‏19‏)‏ وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ‏(‏20‏)‏ أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآَثَارًا فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ ‏(‏21‏)‏ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ ‏(‏22‏)‏‏}‏

يوم الآزفة‏:‏ يوم القيامة، ومعنى الآزفة‏:‏ القريبة‏.‏ الحناجر‏:‏ جمع حنجرة، الحلقوم‏.‏ كاظمين‏:‏ ممسكين، محزونين‏.‏ حميم‏:‏ صديق‏.‏ خائنة الأعين‏:‏ الأعين التي تزوغ وتنظر بخبث‏.‏ وما تخفي الصدور‏:‏ ما تكتمه الضمائر‏.‏ من واق‏:‏ من حافظ‏.‏

أنذِر أيها الرسول مشركي قومك عذابَ يوم القيامة وهوله، حين تصير القلوب عند الحناجر من شدة الخوف‏.‏ يومئذ ليس لهم صديق ينفعهم، ولا شفيع تُقبل شفاعته لهم، والله تعالى لا يخفى عليه شيء، يعلم النظرة الخائنة، والسرَّ المستور الذي تخفيه الصدور‏.‏ وهو تعالى يقضي بالعدل والحق، فلا يظلم احداً ولا ينسى شيئاً، والآلهة المزعومة لا يستطيعون عمل شيء، ‏{‏إِنَّ الله هُوَ السميع البصير‏}‏‏.‏

ألم يسافر المشركون في الأرض، فيروا كيف كان مآل الأمم الماضية‏!‏‏!‏ كانوا أشدّ منهم قوة وتركوا آثاراً عظيمة في الأرض، فاستأصلهم الله بذنوبهم‏.‏

‏{‏وَمَا كَانَ لَهُم مِّنَ الله مِن وَاقٍ‏}‏

لم يكن لهم من ينصرهم ويحفظهم من عذاب الله‏.‏

وقد تكرر هذا المعنى في أكثر من آية، ولكن بأسلوب مختلف‏.‏

ولقد نزل بهم ذلك العذاب لأنهم كذّبوا رسُلهم وجحدوا آيات الله ‏{‏فَأَخَذَهُمُ الله إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ العقاب‏}‏

قراءات‏:‏

قرأ نافع وهشام‏:‏ والذين تدعون‏:‏ بالتاء‏.‏ والباقون‏:‏ يدعون‏:‏ بالياء‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏23- 29‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآَيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ ‏(‏23‏)‏ إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ ‏(‏24‏)‏ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ ‏(‏25‏)‏ وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ ‏(‏26‏)‏ وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ ‏(‏27‏)‏ وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آَلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ ‏(‏28‏)‏ يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ ‏(‏29‏)‏‏}‏

سلطان مبين‏:‏ حجة واضحة‏.‏ هامان‏:‏ وزير فرعون‏.‏ قارون‏:‏ من أغنى الأغنياء في ذلك الزمان‏.‏ اني عُذت بربي‏:‏ اني التجأت اليه‏.‏ رجل مؤمن من آل فرعون‏:‏ يقال إنه ابن عم فرعون‏.‏ المسرف‏:‏ الذي تجاوز الحد في المعاصي‏.‏ ظاهرين‏:‏ غالبين‏.‏ ما أريكم الا ما أرى‏:‏ ما أعلّمكم الا ما أعلم من الصواب‏.‏

لقد تقدمتْ قصةُ موسى أكثر من مرة، ذُكر هامان وقارون كل منهما ست مرات، وهذه آخر سورة يُذكران فيها‏.‏ والجديد في قصة موسى هنا هو ذِكر الرجل الؤمن من آل فرعون‏.‏ فإن الله تعالى لما أرسل موسى الى فرعون وهامان وقارون كذّبوه وقالوا ساحر مبالغ في الكذب‏.‏ ولمّا أعيت فرعونَ الحيلة ولم يستطع ان يأتي بحجة ضد موسى- صال لقومه‏:‏ دعوني أقتلُ موسى، وليدعُ ربه لينقذه، فاني أخاف عليكم ان يغير دينكم ‏{‏أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الأرض الفساد‏}‏ فقال موسى لفرعون وملئه‏:‏ إني تحصنت والتجأتُ الى ربي ولا اخاف منكم احدا‏.‏

وهنا يتدخل الرجل المؤمن من آل فرعون فيما لا يعرفُ أحدٌ أنه آمن، فيقول‏:‏ اتقتلون رجلاً لأنه يقول إن الهي الله‏!‏‏!‏ ولقد جاءكم بالأدلة الواضحة من رب العباد، وأفحمكم بالحجة القاطعة وعجزتم عن اقناعه‏!‏

‏{‏وَإِن يَكُ كَاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ‏}‏ وما عليكم من تبعته شيء‏.‏

‏{‏وَإِن يَكُ صَادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الذي يَعِدُكُمْ إِنَّ الله لاَ يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ‏}‏‏.‏

ثم أضاف يقول‏:‏ يا قومي، ان الملك لكم اليوم وانتم ظاهرون في ارض مصر، فمن ينقذنا من عذاب الله ان جاءنا‏!‏‏؟‏

فلم يلتفت فرعون اليه، وقال لقومه‏:‏ ‏{‏مَآ أُرِيكُمْ إِلاَّ مَآ أرى وَمَآ أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرشاد‏}‏ واستمر على عناده وكفره‏.‏